الرشوة
12

أغسطس

الرشوة: السرطان الصامت الذي ينهش جسد الأمم

مقدمة: وباء يعم ولا يخص

الحمد لله الذي حرم الظلم على نفسه وجعله بين عباده محرمًا، والصلاة والسلام على نبينا محمد الذي بيّن الحلال والحرام بيانًا محكمًا، وعلى آله وأصحابه ذوي الورع والتقى، وعلى التابعين لهم بإحسان إلى يوم الملتقى، أما بعد:

في قلب عالم يموج بالمادية والتنافس المحموم، يبرز مرض خبيث ينخر في جسد المجتمعات بصمت، حتى يستشري في مفاصلها ويشل حركتها. هذا المرض هو “الرشوة”، الآفة التي أضحت في عصرنا من الأمور التي عمت بها البلوى، حتى كاد المرء لا يقضي حاجة أو ينجز معاملة في كثير من البلدان إلا بواحد من ثلاثة: وساطة، أو جاه، أو دفع رشوة.

لقد تحولت هذه الجريمة النكراء بمرور الزمن إلى عُرف اجتماعي مؤسف، فصار دفع “الإكرامية” أو “الحلاوة” التزامًا غير مكتوب للحصول على خدمة واجبة، وأصبحت الرشوة هي المفتاح السحري للحصول على وظيفة، أو ترقية، أو حتى إجازة مستحقة. ولم يسلم من هذا الفساد حتى قطاعات حساسة كالشرطة والقضاء، حيث وجد ضعاف النفوس ثغرات في القوانين لزيادة دخلهم من هذا المال الحرام، محوّلين الخدمة العامة إلى سلعة خاصة تُباع وتُشترى.

إن تفشي الرشوة لم يعد مقصورًا على تعاملات الأفراد، بل امتد ليصبح أداة تستخدمها الشركات الكبرى وحتى الحكومات. فالصفقات الدولية والعمولات الخفية التي يتقاضاها بعض كبار المسؤولين ما هي إلا وجه آخر لهذه الآفة التي تتجاوز الحدود. وتشير التقارير الدولية، مثل مؤشر مدركات الفساد، إلى أن هذا الوباء لا يفرق بين شرق وغرب، أو دول نامية ومتقدمة، وإن تفاوتت درجاته. فالرشوة في الغرب تتخذ أقنعة متعددة مثل “مساهمات الحملات الانتخابية” أو “التبرعات السياسية”، لكن جوهرها واحد: إفساد الذمم وشراء القرارات.

أضرار الرشوة: آثار مدمرة على الفرد والمجتمع

إن الرشوة ليست مجرد معاملة مالية محرمة، بل هي معول هدم شامل، وآثارها تتجاوز جيوب الأفراد لتضرب أسس المجتمع وقيمه واقتصاده. ويمكن إجمال أضرارها فيما يلي:

1- على المستوى الإيماني والأخلاقي:

الرشوة داء يفتك بدين المرء قبل دنياه. فآكل السحت تُنزع البركة من رزقه وعمره، وتُحجب دعوته، وتذهب مروءته. قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كل لحم نبت من سُحت فالنار أولى به)، وقد فُسّر السحت بأنه الرشوة في الحكم. كما أن شيوع الرشوة في مجتمع ما هو مؤشر على تدمير أخلاقياته، حيث يحل الغش محل النصيحة، والخيانة محل الأمانة، وتُداس الفضيلة تحت أقدام المصلحة.

2- على المستوى الاجتماعي:

حين تنتشر الرشوة، يسود الظلم وتضيع الحقوق. يصبح الفقير هو الضحية الأولى، لأنه عاجز عن دفع ثمن حقه، بينما يتمكن الغني بماله من إحقاق الباطل. وهذا يولد الأحقاد والضغائن، ويفكك أواصر المجتمع، ويجعله غابة يأكل فيها القوي الضعيف. قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (مَا مِنْ قَوْمٍ يَظْهَرُ فِيهِمُ الرِّشَا إِلَّا أُخِذُوا بِالرُّعْبِ) [رواه أحمد من حديث عمرو بن العاص]. فلا أمان في مجتمع تسوده الرشوة.

3- على المستوى الاقتصادي والإداري:

تؤدي الرشوة إلى توسيد الأمر لغير أهله، حيث يتم اختيار الموظف أو المقاول ليس لكفاءته، بل لقدرته على الدفع. والنتيجة هي انهيار المشاريع، وتدني جودة الخدمات، وهدر المال العام. فكم من جسر انهار، أو مبنى تساقط، أو طريق تهالك، كانت الرشوة هي الإسمنت الفاسد في أساسه. إنها تدمر الموارد المالية للمجتمع، وتعرقل التنمية، وتجعل الفساد الإداري هو القاعدة وليس الاستثناء.

4- على أمن الوطن:

قد تصل بشاعة الرشوة إلى حد الخيانة العظمى، كما يحدث في الجمارك والحدود، حيث يتم إدخال المخدرات والأسلحة التي تدمر شباب الأمة وأمنها، أو إفشاء أسرار الدولة العسكرية مقابل حفنة من المال، مما يعرض البلاد للخطر والهلاك.

حكم الرشوة في الإسلام: تحريم قاطع ووعيد شديد

لم تترك الشريعة الإسلامية مجالاً للشك في حكم الرشوة، فهي من كبائر الذنوب المحرمة بالكتاب والسنة والإجماع، بغض النظر عن الأسماء التي تُطلق عليها خداعًا، كـ”هدية” أو “إكرامية” أو “حق الشاي”.

من القرآن الكريم: قال تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُم بَيْنَكُم بِالْبَاطِلِ وَتُدْلُوا بِهَا إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقًا مِّنْ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَأَنتُمْ تَعْلَمُونَ} (البقرة: 188).

وقال في وصف أهل السوء: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (المائدة: 42)، وقد أجمع المفسرون على أن السحت هو الرشوة وما شابهها من مكاسب خبيثة.

من السنة النبوية: جاء الوعيد الشديد واللعن الصريح لمن يتعامل بها. فعن عبد الله بن عمرو رضي الله عنهما قال: (لَعَنَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الرَّاشِيَ وَالْمُرْتَشِيَ) [رواه أحمد والترمذي وصححه الألباني]. واللعن هو الطرد والإبعاد من رحمة الله، وهو لا يكون إلا على كبيرة من الكبائر. ويشمل اللعن دافع الرشوة (الراشي)، وآخذها (المرتشي)، والوسيط بينهما (الرائش) في بعض الروايات.

من الإجماع: أجمعت الأمة سلفًا وخلفًا على تحريم الرشوة، وعدّها العلماء من كبائر الذنوب التي تهلك صاحبها وتفسد دينه ودنياه.

استثناء الضرورة: حين يجوز المحظور بشروط

على الرغم من هذا التحريم القاطع، فإن الشريعة الإسلامية، بمنهجها القائم على رفع الحرج ومراعاة أحوال الناس، قد استثنت حالة واحدة يجوز فيها دفع الرشوة، وهي حالة الضرورة القصوى.

والمقصود بها أن الإنسان إذا لم يستطع الوصول إلى حقه المشروع، أو دفع ظلم محقق عن نفسه أو ماله، إلا بدفع مبلغ من المال، فإنه يجوز له الدفع في هذه الحالة، ويكون الإثم كله على المرتشي الذي أجبره على ذلك. روي أن ابن مسعود رضي الله عنه أُخذ بأرض الحبشة في شيء، فأعطى دينارين حتى خُلّي سبيله.

ولكن هذا الجواز مقيد بشروط صارمة:

أن يكون الحق الذي يسعى إليه مشروعًا وثابتًا له.

أن يكون قد استنفد كل الطرق المباحة للحصول على حقه وفشل.

أن يكون الدفع لدفع ظلم أو تحصيل حق، لا للحصول على ميزة غير مستحقة أو لإلحاق الضرر بالآخرين.

في هذه الحالة، يكون الدافع مضطرًا، ويكون الوزر كاملاً على الآخذ الذي استغل منصبه وأكل السحت.

الحل الإسلامي: الشفاعة الحسنة وبناء مجتمع متكافل

إن الحل الجذري لظاهرة الرشوة لا يكمن فقط في العقوبات والقوانين الرادعة، على أهميتها، بل في بناء منظومة قيمية تعزز التكافل والتعاون وتغلق أبواب الحاجة التي قد تدفع البعض للرشوة. لقد قدم الإسلام بديلاً نبيلًا وهو “الشفاعة الحسنة”.

قال تعالى: {مَّن يَشْفَعْ شَفَاعَةً حَسَنَةً يَكُن لَّهُ نَصِيبٌ مِّنْهَا} (النساء: 85). إنها دعوة لكل مسلم أن يكون عونًا لأخيه في قضاء حوائجه، وأن يستخدم جاهه ومنصبه في مساعدة المحتاجين والشفاعة للمظلومين، ابتغاء الأجر من الله. وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم على ذلك فقال: (اشْفَعُوا تُؤْجَرُوا، وَيَقْضِي اللَّهُ عَلَى لِسَانِ نَبِيِّهِ مَا شَاءَ) [رواه البخاري]

عندما يسود مبدأ “المسلم أخو المسلم”، وعندما يسعى كل فرد في حاجة أخيه، فإن أبواب الرشوة تضيق وتُغلق، لأن المجتمع يصبح كالجسد الواحد، لا يحتاج فيه العضو إلى دفع مال ليحصل على حقه من عضو آخر.

خاتمة:

إن الرشوة داء عضال، وعلاجها يتطلب تضافر الجهود على كل المستويات: من الدولة التي يجب أن تضع القوانين الرادعة وتضمن كفاية موظفيها، إلى العلماء والدعاة الذين يجب أن يبينوا حرمتها وخطورتها، وانتهاءً بكل فرد في المجتمع، الذي يجب أن يتحلى بالتقوى والورع، وأن يرفض أن يكون جزءًا من هذه المنظومة الفاسدة، راشيًا كان أو مرتشيًا. فلنتق الله في أموالنا وأنفسنا ومجتمعاتنا، ولنعلم أن البركة في الحلال وإن قل، وأن المحق في الحرام وإن كثر.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RELATED

Posts