القرض
20

أغسطس

القروض المتبادلة في الفقه الإسلامي كأداة تمويل

المقدمة

تُعَدُّ مسألة القروض من أهم موضوعات الفقه الإسلامي المعاصر، نظراً لارتباطها الوثيق بالمعاملات المالية، واحتياج الأفراد والمؤسسات إليها في معالجة الأزمات والسيولة. ومن بين الصور التي ظهرت في التطبيق الاقتصادي ما يُعرف بالقروض المتبادلة، حيث يقوم طرفان أو أكثر بتبادل الإقراض فيما بينهم، سواءً على مستوى الأفراد أو المؤسسات. والسؤال الجوهري: ما حكم هذه المعاملة في ضوء القواعد الفقهية؟ وهل يمكن أن تُعتبر أداة تمويلية مشروعة في الاقتصاد الإسلامي؟

تعريف القرض وأدلته الشرعية:

القرض لغةً: القطع، ومنه “المقراض”.

اصطلاحاً: دفع مال لمن ينتفع به ويرد بدله.

والقرض في الفقه الإسلامي مشروع بالأدلة القطعية، منها:

قوله تعالى: ﴿مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضًا حَسَنًا فَيُضَاعِفَهُ لَهُ﴾ [البقرة: 245].

ما ورد عن النبي ﷺ أنه قال: (من أنظر معسراً أو وضع عنه أظله الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله)

وقد أجمع الفقهاء على مشروعية القرض، وعدّوه من عقود التبرعات والإحسان.

مفهوم القروض المتبادلة:

القرض المتبادل هو: اتفاق بين طرفين على أن يُقرِض كل منهما الآخر مبلغاً من المال في وقت معين، على أن يلتزم الطرف الآخر برد المثل في وقت لاحق، سواء بمقدار مماثل أو بمدة مماثلة.

القروض المصرفية المتبادلة المعاصرة:

طورت المصارف الإسلامية هذه الصيغة بما يُعرف بـ حساب النقاط أو النمر، حيث يُحتسب لصاحب الرصيد الدائن نقاطٌ يراعى فيها مقدار الرصيد ومدة بقائه، كما يُحتسب على الرصيد المدين نقاط مماثلة. وعند بلوغ الطرفين نقطة التعادل تُسوّى الحسابات فيما بينهما.

وتُستخدم هذه الطريقة في تعاملات المصارف الإسلامية مع:

  • البنك المركزي بديلاً عن الريبو والريبو العكسي.
  • المصارف التجارية الأخرى لتغطية الاحتياجات القصيرة الأجل.
  • المراسلات المصرفية الدولية لتفادي التعامل بالفوائد الربوية على الحسابات المكشوفة.

ولا يشترط أن تكون القروض متساوية دائماً (1:1)، بل قد تكون بنسبة (2:1) مثلاً، خاصةً عندما يكون أحد الطرفين أقوى (كالبنك المركزي مع المصارف)

الحكم الشرعي للقروض المتبادلة:

أولاً: القروض المتبادلة بالشرط مع المساواة

اختلف الفقهاء في حكمها على قولين:

  • القول الأول: التحريم:  وهو مذهب الجمهور (المالكية والشافعية والحنابلة)، وعدُّوها من قبيل “أسلفني أسلفك”. واستندوا إلى قاعد: ” كل قرض جرّ نفعاً مشروطاً للمقرض فهو حرام”.
  • القول الثاني: الجواز: وهو ما أخذت به هيئات شرعية معاصرة (كمصرف الإنماء، بنك البلاد، بيت التمويل الكويتي، مجموعة البركة). ووجه الجواز أن النفع هنا مشترك، لا يختص به طرف على حساب الآخر، فيشبه السُّفتجة التي أجازها جمع من السلف، لما فيها من منفعة مشتركة وأمان للطرفين.

ثانياً: القروض المتبادلة بالشرط مع التفاوت:

إذا تضمنت زيادة لأحد الطرفين (كأن يُقرض ألفاً ليوم ويسترده ألفين في يومين) فهي محرمة باتفاق؛ لأنها قرض جر نفعاً محضاً للمقرض.

ثالثاً: القروض المتبادلة بدون شرط:

وتطبق غالباً بين المصارف الإسلامية والبنوك المراسلة بالخارج، حيث يفتح كل منهما ودائع جارية لدى الآخر، ويتفقان على عدم احتساب فوائد على الأرصدة المدينة أو الدائنة. وقد نصت معايير هيئة المحاسبة والمراجعة للمؤسسات المالية الإسلامية (AAOIFI) على جواز هذه الصورة، باعتبارها ضرورة عملية لتفادي الفوائد الربوية في الحسابات المكشوفة.

المناقشة والترجيح:

يتضح من مجموع الأقوال أن جوهر الخلاف يدور حول طبيعة النفع المتحقق للمقرض:

  • إن كان النفع مختصاً به فهو ربا محرم.
  • وإن كان النفع مشتركاً للطرفين مع تساوي الالتزامات، فالراجح هو الجواز، خاصة في المعاملات المصرفية التي تحتاج إلى مرونة لإدارة السيولة.

وبالتالي، يظهر أن الأقرب للصواب هو جواز القروض المتبادلة المشروطة عند التساوي، بشرط ألا تُربط بأسعار الفائدة السائدة في الأسواق، بل تقوم على المماثلة في المقدار والمدة.

الأبعاد التطبيقية والاقتصادية للقروض المتبادلة في المصارف الإسلامية:

  • إدارة السيولة: تمكّن المصارف الإسلامية من مواجهة فجوات السيولة اليومية دون اللجوء إلى أدوات ربوية.
  • بديل شرعي للريبو: توفر أداة مالية إسلامية تعزز الثقة في النظام المصرفي.
  • تحقيق العدالة: كونها تقوم على مبدأ التكافؤ وعدم استغلال الطرف الأضعف.
  • مرونة في التعاملات الدولية: عبر آلية الودائع المتبادلة مع المراسلين الأجانب.

الخاتمة

القروض المتبادلة تُعد من الأدوات المالية المهمة في العمل المصرفي الإسلامي، إذ تحقق مصلحة حقيقية في إدارة السيولة وتفادي المحاذير الربوية. والراجح من أقوال الفقهاء جوازها عند المساواة في المقدار والمدة، مع رفض أي زيادة مشروطة لأحد الطرفين. وهذا يعكس قدرة الفقه الإسلامي على مواكبة التطورات الاقتصادية وتقديم بدائل عملية عادلة وشرعية.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RELATED

Posts