25

مارس

التمويل الإسلامي هو الضمانة الوحيد لتحقيق العدالة

في عالم تتسابق فيه الدول والشركات والأفراد نحو النمو، يبرز “التمويل” كشريان الحياة الذي يضخ الدماء في جسد الاقتصاد. لكن في ظل هيمنة النموذج الرأسمالي، ارتبط التمويل بشكل وثيق بالقروض الربوية التي أثبتت الأزمات المالية العالمية أنها قنبلة موقوتة تهدد استقرار المجتمعات. فهل قدم الإسلام، بشريعته الخالدة، بديلاً حقيقياً وفعالاً؟ وكيف يمكن للتمويل المشروع أن يكون محركاً للتنمية المستدامة؟

التمويل عصب الحياة الاقتصادية

التمويل، هو “توفير الأموال اللازمة للقيام بالمشاريع وتطويرها”. إنه الأداة التي تحول الأفكار إلى واقع، وتساهم في بناء المطارات والمستشفيات والشركات، وتوفر فرص عمل تقضي على البطالة وتحقق الحياة الكريمة للأفراد.

وقد حث الإسلام على عمارة الأرض والسعي فيها، فقال تعالى: ﴿هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَاسْتَعْمَرَكُمْ فِيهَا﴾، وهذا الاستعمار يتطلب بالضرورة وجود آليات تمويلية تطلق طاقات المجتمع الإنتاجية.

التمويل المحرم: فخ الربا وآثاره المدمرة

قبل الخوض في تفاصيل التمويل الإسلامي، من الضروري فهم مخاطر النموذج السائد الآن والقائم على الربا. يتمثل التمويل المحرم في كل قرض يجر نفعًا مشروطًا، سواء كان ذلك بزيادة صريحة، أو تحت مسميات خادعة مثل “الرسوم الإدارية” التي تكون أكثر من التكلفة الحقيقية.

لم يكن التحريم عبثيًا، بل لأسباب عميقة تعود بالضرر على الفرد والمجتمع؛ من ذلك:

  • الظلم وغياب العدالة: فالمرابي يريد أن يضمن ربحه دون تحمل أي مخاطر، بينما يتحمل المقترض كل عبء الخسارة، مما يخلق علاقة ظالمة.
  • نشر الكسل: فالمرابي لا يشارك في أي جهد إنتاجي حقيقي، بل يكتفي بوضع ماله وانتظار الأرباح المضمونة.
  • تدمير المشاريع: في حال تعثر المشروع، تتراكم الفوائد المركبة على المقترض، مما قد يؤدي في النهاية إلى استيلاء المرابي على المشروع بأكمله، بعكس المضاربة الشرعية – كما سيأتي – يتحمل الطرفان الخسارة، إذا لم تكن بتقصير أو تفريط.
  • الأزمات المالية: أثبتت الأزمات العالمية أن الديون الربوية هي السبب الرئيسي للانهيارات الاقتصادية. وقد لجأت دول كبرى مثل اليابان ودول أوروبية إلى تخفيض الفائدة إلى ما يقارب الصفر كحل لتنشيط اقتصاداتها، في اعتراف ضمني بخطورة الربا.

التمويل المشروع: بحر من البدائل العملية والمنتجة

قال تعالى: {‌وَأَحَلَّ ٱللَّهُ ٱلۡبَيۡعَ وَحَرَّمَ ٱلرِّبَوٰاْۚ} [البقرة: 275]

فعندما حرم الإسلام الربا، لم يترك فراغًا، بل فتح أبوابًا واسعة من صيغ التمويل القائمة على العدل والمشاركة الحقيقية في تحمل المخاطر، والتي تحرك عجلة الاقتصاد بشكل فعال وعادل.

وسنذكر بعضاً من عقود التمويل الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر؛ فمن ذلك:

 

  • المشاركة (الشراكة والمضاربة):

يُعد هذا النوع من أعظم وأبرك أنواع التمويل. يقوم على اشتراك طرفين أو أكثر، أحدهما بالمال والآخر بالعمل والخبرة (المضاربة)، أو كلاهما بالمال والعمل (المشاركة).

مزاياه: يجمع رؤوس الأموال مع الخبرات، ويشجع على قيام المشاريع الكبيرة التي يعجز عنها الأفراد، ويوزع المخاطر والأرباح بعدالة.

  • المشاركة المتناقصة:

صيغة مبتكرة تتيح للمؤسسة التمويلية الدخول كشريك في مشروع، ثم تبيع حصتها تدريجيًا للشريك الآخر (صاحب المشروع)، حتى يتملكه بالكامل في النهاية.

  • المرابحة:

بيع المرابحة للآمر بالشراء: هو أن يرغب شخصٌ في سلعة معينة -كسيارة أو عقار-؛ فيذهب إلى شخص أو مؤسسة أو مصرف، فيحدد له السلعة المطلوبة، ويَعِدُهُ أن يشتريها منه بعد شرائه لها وقبضه إياها بربح يتفقان عليه. وهي من أكثر العقود استخدامًا في المصارف الإسلامية المعاصرة.

  • الإجارة المنتهية بالتملّك:

هو عقد يجمع بين الإجارة والوعد بالتملك، حيث يقوم المؤجر (غالبًا مصرف أو شركة) بتأجير عين (كسيارة أو منزل أو آلة) إلى مستأجر لمدة معلومة وبأجرة معلومة، وفي نهاية المدة يتم نقل ملكية العين إلى المستأجر، إما بعقد بيع مستقل، أو بهبة معلقة على سداد جميع الأقساط، أو بوعد ملزم بالهبة أو البيع.

ولهذا السبب تسمى أيضًا: الإجارة مع الوعد بالتمليك، أو: الإجارة التمويلية.

وميزته: تحويل ملكية الأصل للمستأجر بعد سداد جميع الأقساط.

  • السلم:

هو عقد لموصوف في الذمة مؤجل، بثمن مقبوض في مجلس العقد، أي أن البيع يتم على سلعة مُؤجلة التسليم (مثل المحاصيل الزراعية) مقابل دفع الثمن مقدمًا.

وعقد السلم من رحمة هذه الشريعة إذ يحقق المصلحة للطرفين؛ طرف يحتاج للمال كي يتمكن من الإنتاج وتحقيق الربح، والطرف الآخر يريد أن يضمن توفر السلعة في وقت ما بسعر أقل مقابل الدفع المعجّل.

  • الاستصناع:

عقد تصنيع أو بناء أصل بمواصفات محددة (مثل بناء عقار أو تصنيع آلة) ، مع دفع الثمن على دفعات أو عند التسليم، وهو مناسب لتمويل المشاريع الصناعية والعقارية.

  • المساقاة والمزارعة:

التعريف: عقد بين مالك الأرض والمزارع يتولى فيه الأخير الزراعة مقابل نسبة من المحصول.

وهو يحقق المصلحة للطرفين.. فصاحب الأرض والمزارع كل منهما يتقاسما الأرباح حسب الاتفاق.

  • القرض الحسن:

وهو دفع مال لمن ينتفع به ويرد مثله دون أي زيادات.

وتم الختم بهذا النوع من التمويل لأنه في الأصل ليس من دور المؤسسات التمويلية، وإنما دور المجتمع كله حكاماً ومحكومين، أن يوفروا قنوات للقرض الحسن، مما يعود بالنفع على الأفراد والمجتمع.

هذه بعض نماذج التمويل الإسلامي على سبيل المثال لا الحصر؛ والتي تحقق العدالة للمتعاقدين وللمجتمع ككل.. إذ كل عقد من هذه العقود يقدم قيمة مضافة؛ غير القروض الربوية التي في الحقيقة لا تقدم أي قيمة مضافة.. وتعتبر الدين نفسه هو مصدر ربحها، دون أي اعتبارات أخرى !

خاتمة:

إن التمويل المشروع ليس مجرد مجموعة من العقود، بل هو رؤية اقتصادية متكاملة تحقق النمو والعدالة معًا. وفي وقت يعاني فيه العالم من أزمات الديون، يملك الاقتصاد الإسلامي فرصة ذهبية لتقديم نموذجه القائم على الأصول الحقيقية والمشاركة الفعالة، ليثبت للعالم أن تحقيق الرخاء ممكن بل وأكثر استدامة عندما يكون في إطار يرضي الله ويحقق مصلحة الإنسان.

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

RELATED

Posts